كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان {غير ذات الشوكة} وأن يلاقوا نفير أبي جهل {ذات الشوكة} وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر؛ ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة! وقال لهم الله- سبحانه- إنه صنع هذا:
{ليحق الحق ويبطل الباطل} وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة.. إن الحق لا يحق، وإن الباطل لا يبطل- في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان النظري للحق والباطل. ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل.. إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس؛ وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس. إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا.. فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي!
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة؛ وكان هذا النصر العملي فرقانًا واقعيًا بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته- سبحانه- من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق؛ ومن وراء إفلات القافلة {غير ذات الشوكة} ولقاء الفئة ذات الشوكة..
ولقد كان هذا كله فرقانًا في منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم.. وأنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته؛ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين!
وهكذا كان يوم بدر {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة..
{والله على كل شيء قدير}.
وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء.. مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممار.. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله. وأن الله على كل شيء قدير.
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعود إلى المعركة، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها، كما لو كانت معروضة فعلًا، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها. حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله- سبحانه- من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة وإن الله لسميع عليم إذ يريكهم الله في منامك قليلًا ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلًا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا وإلى الله ترجع الأمور}.
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها؛ وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها.. إن يد الله تكاد ترى، وهي توقف هؤلاء هنا، وهؤلاء هناك، والقافلة من بعيد! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر، وفي إغراء كل منهما بالآخر.. وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية، وبهذه الحركة المرئية، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير!
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها.. ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة؛ ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة؛ وبين الفريقين ربوة تفصلهما.. أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين.
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه. وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده. حتى لو أن بينهما موعدًا على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره.
{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا}.
إن وراء هذا التلاقي على غير موعد- بهذه الدقة وبهذا الضبط- لأمرًا مقضيًا يريد الله تحقيقه في عالم الواقع، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف؛ ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به!
أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه:
{ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة}.
والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر، كما يعبر به عن الكفر. وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان.. وهذا المدلول الثاني أظهر هنا، وذلك كا قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى: {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة؛ وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان. هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن.
ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر- كما قال الله سبحانه- كان يوم الفرقان وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل- كما ذكرنا منذ قليل- ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة- يكفر عن بينه فيهلك عن بينة- ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة.
إن الموقعة- بظروفها التي صاحبتها- تحمل بينة لا تجحد، وتدل دلالة لا تنكر، على تدبير وراء تدبير البشر، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر.. إنها تثبت أن لهذا الدين ربًا يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا، وأنه لو كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم.
ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال: فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله- كما يزعم محمد- فما لأحد بالله من طاقة! ولقد علموا- لو كان العلم يجدي- أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين، وأنه ما لأحد بالله من طاقة.. فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة!
هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة}. ولكن يبقى وراءه إيحاء آخر:
إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل؛ واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع- بعد استعلائه في عالم الضمائر- إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب؛ وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس؛ بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى؛ فلا تعود لمن يختار الهلاك- أي الكفر- شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى؛ كما أن الذي يريد أن يحيا- أي يؤمن- لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله، ويخذل الطغاة.
وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع- في التعريف بسورة الأنفال- من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت؛ وإعلاء راية الحق وسلطان الله.. فهذا مما يعين على جلاء الحق: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة}. كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى، في هذه السورة: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...} فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب. لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير الإنسان في الأرض كما أسلفنا.
والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة، وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلًا هو:
{وإن الله لسميع عليم}.
فهو- سبحانه- لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل؛ ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال؛ وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر، وهو السميع العليم..
وبعد هذا التعقيب الذي يتوسط استعراض المعركة وأحداثها وملابساتها يمضي السياق في هذا الاستعراض؛ ويكشف التدبير الخفي اللطيف:
{إذ يريكهم الله في منامك قليلًا ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور}.
ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكافرين في الرؤيا في منامه قليلًا لا قوة لهم ولا وزن، فينبئ أصحابه برؤياه، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة.. ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلًا. فلقد علم- سبحانه- أنه لو أراهم له كثيرًا، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال، ولضعفوا عن لقاء عدوهم؛ وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم: فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم.. وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشًا يواجه عدوًا!
{ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور}.
ولقد كان- سبحانه- يعلم بذوات الصدور؛ فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف؛ فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلًا، ولم يرهم إياه كثيرًا..
والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية. فقد رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلًا.. وهم كثير عددهم، ولكن قليل غناؤهم، قليل وزنهم في المعركة، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع، والإيمان الدافع، والزاد النافع.. وهذه الحقيقة الواقعة- من وراء الظاهر الخادع- هي التي أراها الله لرسوله؛ فأدخل بها الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة. والله عليم بسرائرهم، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم، من ضعف عن المواجهة؛ وتنازع على الالتحام أو الإحجام. وكان هذا تدبيرًا من تدبير الله العليم بذات الصدور.
وحينما التقى الجمعان وجهًا لوجه، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة، في صورة عيانية من الجانبين؛ وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به؛ عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها.
{وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلًا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا وإلى الله ترجع الأمور}.
ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة.. والمؤمنون يرون أعداءهم قليلًا- لأنهم يرونهم بعين الحقيقة!- والمشركون يرونهم قليلًا- وهم يرونهم بعين الظاهر- ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها، تحققت غاية التدبير الإلهي؛ ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه.
{وإلى الله ترجع الأمور} وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء.. فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده، يصرفها بسلطانه، ويوقعها بإرادته، ولا تند عن قدرته وحكمه. ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره.
وإذ إن الأمر كذلك.. التدبير تدبير الله. والنصر من عند الله. والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر. والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة.. فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا؛ وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة؛ وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد، وصاحب القوة والسلطان؛ وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة؛ وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل؛ وليحترزوا من خداع الشيطان، الذي أهلك أولئك الكفار؛ وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم:
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}.
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات، وقواعد وتوجيهات، وصور ومشاهد؛ وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة، وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر.. مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير؛ ثم لا يبلغ ذلك شيئًا من هذا التصوير المدهش الفريد!